تركيا في الشرق الأوسط بعد تحولات ما بعد الأسد: ملامح إعادة التموضع وصناعة التوازن محمد علي الحيدري واشنطن

تركيا في الشرق الأوسط بعد تحولات ما بعد الأسد: ملامح إعادة التموضع وصناعة التوازن محمد علي الحيدري واشنطن

تركيا في الشرق الأوسط بعد تحولات ما بعد الأسد: ملامح إعادة التموضع وصناعة التوازن  محمد علي الحيدري واشنطن

مع الانهيار الكامل للنظام السوري وفرار رأسه السياسي إلى موسكو، يكون الشرق الأوسط قد دخل طورًا جديدًا من إعادة هيكلة توازنات القوى، ليس فقط على المستوى الجيوسياسي، بل على مستوى بنية النظام الإقليمي ذاته. لقد تجاوز التنافس على سوريا نطاق إدارة الأزمة المزمنة، ودخل حيز ما يمكن تسميته بـ”هندسة ما بعد الأزمة”، وهو طور نادر في تاريخ العلاقات الدولية، يحمل فرصًا استراتيجية هائلة للدول القادرة على المناورة وتوظيف اللحظة التاريخية لصالح مشروع نفوذ مستدام. في هذا السياق، تبرز الجمهورية التركية بوصفها فاعلًا إقليميًا محوريًا يسعى لإعادة تعريف موقعه ضمن نظام ما بعد الأسد، لا فقط في سوريا، بل ضمن شبكة أوسع من الجيوبوليتيك الشرق أوسطي.

من التدخل إلى التموقع: قراءة في منطق التحرك التركي

منذ بداية ما عُرف بـ”الربيع العربي”، بل وحتى قبله، تحركت أنقرة ضمن إطار إستراتيجية متعددة المستويات، جمعت بين أدوات القوة الصلبة (Hard Power) كالتموضع العسكري المباشر، وأدوات القوة الناعمة (Soft Power) مثل النفوذ الثقافي والتعليمي والديني، مدعومًا بانتشار اقتصادي مرن. وقد تبلورت ملامح هذا التمدد التركي في مواقع متعددة: من شمال العراق، إلى الخليج (قطر)، ثم ليبيا، فالقرن الإفريقي، وأخيرًا في الشمال السوري، حيث تطورت آليات النفوذ التركي إلى ما يمكن تسميته بـ”بنية شبه-دولتية موازية”، تضم مجالس محلية، هياكل إدارية، آليات تعليمية وخدمية، وقواعد عسكرية واستخباراتية راسخة.

في هذا الإطار، يمكن فهم السياسة التركية على أنها تموضع طويل الأمد وليس مجرد انخراط ظرفي. فأنقرة، وفق عدد من المحللين (انظر: Barkey, 2020; Stein, 2022)، لم تعد تتعامل مع ملفات المنطقة بوصفها ساحات نفوذ تقليدية، بل كمكونات مترابطة ضمن مشروع إعادة تعريف “المجال الحيوي التركي” في مرحلة التراجع الأمريكي والانكفاء الأوروبي من الشرق الأوسط.

لحظة ما بعد الأسد: فرصة استراتيجية أم فخ جيوسياسي؟

مع فرار الأسد وتفكك بقايا النظام السوري، تبرز لحظة انتقالية حساسة. تركيا تجد نفسها في موقع فريد، فهي الطرف الوحيد الذي حافظ على تموضع عسكري واستخباراتي عميق في الشمال السوري طيلة سنوات النزاع، مكنها من بناء علاقات عضوية مع طيف واسع من القوى المحلية السورية. لقد انتقلت تركيا من مجرد ضامن أمني إلى لاعب سياسي يمتلك أوراق تأثير على تشكيل النظام السياسي السوري المقبل.

لكن، وعلى الرغم من هذا التموقع، فإن المعضلات الجيوسياسية ما تزال حاضرة بقوة. فالحضور الإيراني، الذي يمتد من العراق  إلى جنوب لبنان، مرورا بمحطات أخرى يشكل تحديًا استراتيجيًا مباشرًا للنفوذ التركي، خاصة مع تشابك ملفات الميليشيات العابرة للحدود. الموقف الأمريكي، الذي لا يزال يتأرجح بين الانخراط والانسحاب، يخلق حالة من اللايقين في حسابات أنقرة. كما أن الحذر العربي، لا سيما من جانب السعودية ومصر، يضيف بعدًا من القيود الإقليمية على أي محاولة تركية للهيمنة الأحادية على مستقبل سوريا.

أما الملف الكردي، فيبقى قلب المعادلة التركية في سوريا، ليس فقط من ناحية الأمن القومي التركي، بل أيضًا لارتباطه بمشروع أنقرة في منع تشكل كيان كردي يتمتع بعمق استراتيجي على حدودها الجنوبية.

من الطموح إلى المشروع: شروط النجاح التركي

من منظور استراتيجي، تدرك القيادة التركية أن لحظة إعادة التشكل الإقليمي لا تتكرر كثيرًا. إنها لحظة “سيولة استراتيجية”، بحسب تعبير Zbigniew Brzezinski، تتيح للقوى الإقليمية المتوسطة إعادة صياغة دورها بوصفها صانعة للتوازن، لا مجرد مستجيبة لتحولاته. غير أن الطموح وحده لا يكفي. فالتحول من قوة إدارة ملفات أمنية متناثرة إلى دولة تقود مشروعًا سياسيًا إقليميًا متماسكًا يتطلب تغييرات جوهرية في أدوات الاشتغال السياسي والدبلوماسي.

ويشمل هذا المسار ضرورة إعادة بناء شراكات إقليمية جديدة أكثر توازنًا مع الفاعلين العرب الكبار، وفي مقدمتهم الرياض والقاهرة، وتخفيف أثر إرث السياسات التركية السابقة، التي خلقت فجوة ثقة مع عدد من المجتمعات والدول. كما أن ترسيخ النفوذ لا يمكن أن يتم من دون مشروع اقتصادي تنموي يربط الاستقرار بالتحسن المعيشي، خاصة في المناطق التي تديرها تركيا حاليًا، كالباب وجرابلس وإدلب.

كما تحتاج السياسة الخارجية التركية إلى قدر أكبر من الاحترافية المؤسسية، بحيث تتحول من رهينة الديناميكيات الداخلية إلى ذراع استراتيجية قادرة على قراءة التحولات الدولية الكبرى، لا سيما في ظل تزايد الانخراط الروسي-الإيراني، والتحولات الحادة في أولويات السياسة الأمريكية في عهد ما بعد بايدن.

نحو توازنات ما بعد الحرب: تركيا كصانع أم كمتأثر؟

خلاصة المشهد أن تركيا تقف اليوم أمام مفترق طرق تاريخي. فإما أن تنجح في تحويل لحظة ما بعد الأسد إلى لحظة تأسيس جديدة لدورها الإقليمي، ما يجعلها فاعلًا راجحًا في معادلات ما بعد الحرب، أو أن تتعثر في تفاصيل النفوذ المتشظي، حيث تتآكل القوة بفعل التناقضات البنيوية وسوء إدارة الملفات المتراكمة.

تشير التقديرات الاستراتيجية إلى أن السنوات الثلاث القادمة ستكون حاسمة في اختبار مدى نضج المقاربة التركية، وقدرتها على التحول من قوة ميدانية إلى قوة مؤسِّسة لنظام إقليمي جديد. المسألة لم تعد تتعلق فقط بسوريا، بل بإعادة تعريف موقع تركيا في نظام إقليمي ما بعد-أمريكي، ما بعد-إيراني، وربما ما بعد-نفطي أيضًا.

إن تركيا التي ستخرج من هذه اللحظة ليست كما كانت قبلها. إنها دولة تخوض اختبارًا تاريخيًا لصياغة هوية جيوسياسية جديدة، على تخوم الجغرافيا، والتاريخ، وواقع إقليمي يعاد تشكيله من جذوره.

المراجع:

1. Barkey, H. J. (2020). Turkey and the Middle East: Power, Politics and Posturing. Carnegie Endowment.

2. Stein, A. (2022). Ankara’s Strategy in Syria Post-US Withdrawal. Atlantic Council.

3. Brzezinski, Z. (1997). The Grand Chessboard: American Primacy and Its Geostrategic Imperatives. Basic Books.