قمة بغداد: هل يملك العراق “فرصة القيادة” في النظام العربي المترنّح؟
قمة بغداد: هل يملك العراق “فرصة القيادة” في النظام العربي المترنّح؟

قمة بغداد: هل يملك العراق “فرصة القيادة” في النظام العربي المترنّح؟
محمد علي الحيدري – واشنطن
يستعيد العراق لحظةً كانت بعيدة المنال. بعد سنوات من الانكفاء والتمزق، تعود بغداد لتستضيف القمة العربية، في مشهدٍ يطمح لأن يكون أكثر من مجرّد تجمّع بروتوكولي. لكن، هل يمكن فعلاً أن تتحوّل هذه القمة إلى لحظة مفصلية تعيد تعريف وظيفة القمم العربية، أو تعيد الروح إلى النظام الإقليمي الذي بات أقرب إلى أطلال خطابية؟
هذا السؤال لا يخصّ العراق وحده، بل يلامس عمق الأزمة البنيوية التي يعاني منها النظام العربي منذ عقود. فالقمم العربية، رغم تراكمها العددي، فشلت في تحويل الإجماع الرمزي إلى فعلٍ تنسيقي منتِج، وبقيت رهينة خطاب الوحدة في ظل سياسات التفكك.
قمة بلا أنياب؟
المشكلة ليست في القمم بذاتها، بل في وظيفتها. فمنذ قمة أنشاص الأولى عام 1946، وحتى آخر القمم المتعاقبة، حافظت الاجتماعات العربية على إيقاع تقليدي: بيان ختامي، وحديث عن “التضامن العربي”، والتأكيد على “القضية الفلسطينية كقضية مركزية”، ثم تنفضّ الجموع.
لكن الحقيقة الصارخة هي أن معظم تلك البيانات بقيت حبيسة الملفات، لأن آلية اتخاذ القرار داخل الجامعة العربية تشترط “الإجماع”، ما يمنح كل دولة حق الفيتو دون أن تتحمّل مسؤولية تعطيل القرار. هذا ما يجعل القمم مكاناً للمناورة السياسية أكثر منها لصناعة القرار.
العراق: الطموح السياسي يصطدم بالهشاشة الداخلية
ما يُعطي قمة بغداد نكهة خاصة هو سياقها السياسي. فالعراق اليوم لم يعد ذلك البلد الذي أنهكته الحروب فقط، بل يحاول – ولو بتعثّر – أن يكون جسراً بين المتخاصمين: بين الرياض وطهران، بين دمشق والقاهرة، بين العرب والإيرانيين. وقد نجح العراق في استضافة قمم مصغّرة سابقة، أبرزها قمة 2021 التي جمعت فرنسا ودولاً عربية وإقليمية، في لحظة بدت وكأنها تؤذن بعودة الدور العراقي.
لكن التحدّي الحقيقي أن يؤدي العراق هذا الدور دون أن يقع في فخّ الانحياز، أو أن يتهاوى أمام استحقاقات الداخل المتأزم. فالعراق ما زال يعاني من انقسامات طائفية ومناطقية، ووجود ميليشيات مسلّحة مرتبطة بإيران، ومؤسسات دولة لم تستعد بعد كامل هيبتها. فهل يمكن لدولة لم تُرمّم بيتها الداخلي أن تقود بيت العرب؟
التحولات الإقليمية: هل تفتح نافذة لفرصة عراقية؟
رغم التشكيك، لا يمكن إغفال أن المشهد الإقليمي يشهد تغيّرات قد تصبّ – نظريًا – في مصلحة العراق:
• أولًا، انكفاء أميركي جزئي عن الشرق الأوسط، ما يتيح للدول الإقليمية أن تعيد تموضعها وتعيد النظر في تحالفاتها.
• ثانيًا، صعود قوى إقليمية جديدة تتعامل ببراغماتية (مثل قطر وتركيا والإمارات)، قد ترى في العراق مساحة مرنة للحوار.
• ثالثًا، إرهاق الدول العربية من الصراعات، مما يخلق حاجة موضوعية لمنصات تهدئة، وليس بالضرورة تحالفات صلبة.
كل هذه العوامل تمنح العراق نافذة، لكنها نافذة مشروطة: يجب أن يبرهن على الحياد النسبي، وعلى القدرة المؤسسية لتنسيق الملفات، لا فقط احتضان الضيوف.
القمم العربية: من الخطابة إلى الفعل؟
لكي تتحوّل قمة بغداد إلى علامة فارقة، لا بد من مراجعة جوهرية لوظيفة القمم. لا يكفي إصدار بيان يتلوه أمين عام الجامعة، ولا التقاط الصور الجماعية. المطلوب إصلاحات حقيقية، منها:
• الخروج من مبدأ الإجماع المطلق إلى آلية تصويت بالأغلبية المؤهلة؛
• إنشاء وحدة متابعة تنفيذية تُراقب التقدّم وتصدر تقارير سنوية؛
• ربط القرارات بميزانيات فعلية، بدل الاكتفاء بتمويلٍ صوري؛
• إشراك المجتمع المدني والمراكز البحثية في صياغة أجندات القمم.
هذه ليست أفكاراً طوباوية. الاتحاد الإفريقي، مثلًا، تجاوز منذ سنوات عقبة الإجماع، ونجح في خلق قوة تدخل سريع، وآلية فرض عقوبات على الانقلابات، وأجهزة أمنية مشتركة. فهل يعقل أن يبقى العرب عاجزين عن تنسيق حتى برامج الإغاثة؟
من يعارض نجاح قمة بغداد؟
وراء الكواليس، هناك من لا يريد للعراق أن يستعيد مكانته، لا عن عداءٍ له، بل لأن نجاح القمة قد يعني تراجع نفوذ عواصم كانت تمسك بزمام اللعبة. بعض العواصم الخليجية، وبعض المحاور الإقليمية، تفضّل قمة باردة على قمة تغيّر التوازن.
وهناك أيضًا مخاوف مشروعة: من استخدام العراق منصة لتعزيز نفوذ إيران، أو لتحييد الملف السوري عبر قنوات موازية، أو لتلميع صورة أطراف محلية فشلت في الحكم.
في الخلاصة: ما الذي نرجوه من بغداد؟
لسنا بحاجة إلى قمة تُدخلنا في موسم التمنيات الموسمية. نحتاج إلى رؤية واضحة لدور العراق العربي، إلى فهم أن العودة إلى النظام الإقليمي لا تعني الهيمنة، بل التنسيق القائم على الاحترام المتبادل.
إذا نجح العراق في تجاوز لحظة الخطابة، وإذا أقنع العرب بأن دوره لا يُهدد بل يُكمل، فربما تكون قمة بغداد بداية طريق جديد، لا نهاية طريق قديم.
لكن إذا بقيت الأمور على ما هي عليه، فستكون القمة كغيرها: منصة رمزية في زمن بلا رموز.