آلية انتخاب بابا الفاتيكان: قراءة في القواعد الكنسية والتقاليد البابوية
آلية انتخاب بابا الفاتيكان: قراءة في القواعد الكنسية والتقاليد البابوية

الملخص:
تتناول هذه الدراسة الموجزة آلية اختيار بابا الفاتيكان، رأس الكنيسة الكاثوليكية، من خلال تحليل النظام القانوني الذي يحكم الانتخاب، ودور المجمع الكرادلة، ومراحل الاقتراع، وما يرافق العملية من رموز دينية وتقاليد طقسية. تستند الورقة إلى مصادر قانونية وكنسية رسمية، أبرزها القانون الكنسي والدستور الرسولي Universi Dominici Gregis الصادر عن البابا يوحنا بولس الثاني عام 1996، وتعديلاته اللاحقة.
مقدمة
يُعد انتخاب بابا الفاتيكان من أبرز الأحداث في العالم المسيحي الكاثوليكي، نظرًا لمكانة الحبر الأعظم كرئيس أعلى للكنيسة الكاثوليكية وأعلى سلطة روحية وتشريعية فيها. وتقوم هذه العملية على مزيج دقيق من التقاليد الكنسية الراسخة والقواعد القانونية المعاصرة، ما يجعلها نموذجًا فريدًا في الجمع بين اللاهوت والمؤسساتية.
أولاً: الإطار القانوني الحاكم لعملية الانتخاب
تعتمد الكنيسة الكاثوليكية في تنظيم عملية انتخاب البابا على القانون الكنسي (Codex Iuris Canonici)، وخاصة القوانين التي تتعلق بمقام الكرسي الرسولي، إلى جانب الدستور الرسولي Universi Dominici Gregis الذي أصدره البابا يوحنا بولس الثاني في 22 فبراير 1996، ونُشرت تعديلات عليه لاحقًا من البابا بندكتوس السادس عشر عام 2007، ومن البابا فرنسيس عام 2013.
وفقًا للمادة 1 من هذا الدستور، فإن سلطة انتخاب البابا تعود حصرًا إلى مجمع الكرادلة (Collegium Cardinalium)، الذين لا يزيد عددهم – حسب التقاليد البابوية الأخيرة – عن 120 ناخبًا ممن لم يبلغوا سن الثمانين عند خلو الكرسي البابوي.
ثانياً: شروط الناخبين والمنتخَب
1. الناخبون:
هم الكرادلة الذين يحق لهم دخول المجمع المغلق (Conclave). يجب أن يكونوا دون سن الثمانين في يوم وفاة البابا أو إعلان الكرسي شاغرًا. لا يُسمح لأي فرد خارج هذا الجسم الانتخابي بالمشاركة في التصويت.
2. المنتخب:
تنص المادة 83 من دستور Universi Dominici Gregis على أن البابا يُنتخب من بين الرجال المعمّدين المنتمين إلى الكنيسة الكاثوليكية، ولكن العرف الراسخ منذ قرون هو انتخابه من صفوف الكرادلة أنفسهم، رغم أن القانون لا يشترط ذلك.
ثالثاً: المراحل العملية للانتخاب
1. خلو الكرسي الرسولي (Sede Vacante):
تبدأ العملية بوفاة البابا أو استقالته (كما حدث مع بندكتوس السادس عشر في 2013). يتولى عميد مجمع الكرادلة أو من ينوب عنه الدعوة لانعقاد المجمع الانتخابي خلال مدة لا تقل عن 15 يومًا ولا تزيد عن 20 يومًا بعد شغور الكرسي.
2. الاجتماع العام للكرادلة:
ينقسم إلى اجتماعات عامة تحضيرية واجتماعات خاصة تضم فقط الكرادلة الناخبين. تُدار الأمور الإدارية ويتم حلف القسم بالحفاظ على السرية.
3. الدخول إلى المجمع المغلق (Conclave):
يُعقد في كنيسة السيستينا داخل الفاتيكان. يُغلق على الكرادلة تمامًا، ولا يُسمح بأي تواصل مع الخارج. يتعهد الجميع بالحفاظ على السرية التامة، ويُقسمون على ذلك أمام مجمع الكرادلة.
4. آلية الاقتراع:
تُجرى عملية الاقتراع سريًا. في اليوم الأول قد يتم تصويت واحد، وفي الأيام التالية يُعقد اقتراعان في الصباح وآخران في المساء. يُكتب اسم المرشح على ورقة صغيرة تُطوى وتوضع في كأس ذهبي يوضع على المذبح.
للفوز، يجب أن يحصل المرشح على ثلثي أصوات الناخبين. إذا لم يُنتخب أحد خلال عدة جولات، تُعقد جلسات صلاة وتأمل، ويمكن الانتقال إلى اقتراع بين أعلى اثنين فقط، لكن مع الحفاظ على شرط ثلثي الأصوات، وفق التعديلات التي أقرها البابا فرنسيس في 2013.
رابعاً: الإعلان والتنصيب
عند انتخاب البابا، يُسأل أولًا: “هل تقبل انتخابك؟”، وإن وافق، يُسأل عن الاسم البابوي الذي يختاره. بعدها يُعلن الخبر من شرفة كنيسة القديس بطرس بالعبارة الشهيرة: “Habemus Papam” (لدينا بابا)، ويظهر البابا الجديد لإعطاء بركته الأولى Urbi et Orbi.
خامساً: البعد الرمزي واللاهوتي
تحمل هذه العملية بعدًا رمزيًا يعكس استمرارية الكنيسة الكاثوليكية ووحدتها رغم التعدد الثقافي والجغرافي. ويُعد المجمع المغلق تعبيرًا عن “كاثوليكية” الكنيسة أي عالميتها، حيث يشارك في الانتخاب ممثلو قارات وشعوب متعددة.
الخاتمة
تبقى عملية انتخاب بابا الفاتيكان من أكثر الممارسات المؤسسية تماسكًا في العالم الديني، لما تحمله من قواعد دقيقة، وإجراءات محكمة، وتقاليد عريقة تُضفي على النتيجة شرعية كنسية وروحية في آن واحد. وبين ما هو قانوني وما هو رمزي، تواصل الكنيسة الكاثوليكية ترسيخ تقاليدها عبر هذه الآلية الفريدة التي تصوغ مستقبلها في كل دورة انتخابية.