أمن الطاقة والتحول إلى الطاقة النظيفة: التحدي الأكبر للعراق في المستقبل القريب
الطاقة
أمن الطاقة والتحول إلى الطاقة النظيفة: التحدي الأكبر للعراق في المستقبل القريب
محمد علي الحيدري – واشنطن
لم يعد نقص الكهرباء في العراق مجرد أزمة عابرة، بل أصبح مظهرًا يوميًا لأزمة بنيوية في قطاع الطاقة، تعكس اعتمادًا مفرطًا على الوقود الأحفوري، وعجزًا عن مواكبة التحولات العالمية نحو الطاقة النظيفة. وفي ظل تسارع التغير المناخي، تبرز تساؤلات مصيرية: كيف سيواجه العراق تحديات أمن الطاقة في المستقبل القريب؟ وهل يمتلك الإرادة والقدرة على التحول إلى مصادر مستدامة للطاقة؟
وفقًا لتقرير وزارة الكهرباء العراقية لعام 2024، بلغ العجز في إنتاج الطاقة نحو 8,000 ميغاواط، ما أدى إلى انقطاعات مستمرة في التيار الكهربائي، خاصة في شهري تموز وآب، حيث بلغت درجات الحرارة أكثر من 50 درجة مئوية في بعض المحافظات. هذا العجز لا يؤثر فقط على الحياة اليومية للمواطنين، بل يهدد أيضًا التنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي في البلاد.
تشير تقارير وكالة الطاقة الدولية (IEA) إلى أن الطلب على الطاقة في منطقة الشرق الأوسط سيشهد ارتفاعًا ملحوظًا بحلول عام 2030، ما يُحتّم على العراق إعادة النظر في استراتيجيته الطاقوية. فرغم موقعه كأحد أكبر منتجي النفط عالميًا، يواجه العراق معضلة موازنة استغلال ثرواته الطبيعية مع ضرورة الحفاظ على بيئته وأمنه الطاقي على المدى الطويل.
ورغم أن العراق يمتلك واحدًا من أعلى معدلات السطوع الشمسي في العالم، إلا أن الاستثمار في الطاقة المتجددة لا يزال محدودًا للغاية. وقد أعلنت الحكومة العراقية في 2023 عن توقيع اتفاقيات مع شركات عالمية، من بينها “توتال إنرجي” الفرنسية، لإنشاء محطات طاقة شمسية بطاقة إنتاجية تصل إلى 1,000 ميغاواط، لكنّ تنفيذ هذه المشاريع لا يزال بطيئًا لأسباب تتعلق بالبنية الإدارية والتمويل. الطاقة الشمسية والرياح تمثلان فرصًا هائلة، لكنها تتطلب بنية تحتية متطورة، وتقنيات حديثة، ومحطات تخزين للطاقة، وكلها غائبة تقريبًا عن المشهد الحالي، في ظل ضعف الاستثمارات الحكومية وضغط الأزمات الاقتصادية.
التحدي الأبرز هو ضيق الوقت. فالتغيرات المناخية تضرب العراق بشدة: موجات حر قياسية، نقص في المياه، وتراجع في الإنتاج الزراعي، ما ينذر بموجات جديدة من التوتر الاجتماعي والاضطرابات الاقتصادية إذا استمر الاعتماد على نموذج الطاقة التقليدي.
كما أن العزلة الاقتصادية قد تكون الثمن القادم. فمع تسارع التحول العالمي نحو مصادر الطاقة النظيفة، تصبح صادرات النفط أقل جاذبية، وتضيق فرص العراق في الأسواق الإقليمية والدولية. في المقابل، يمثل الاستثمار في الطاقة النظيفة فرصة لتعزيز الدور الإقليمي للعراق، خاصة إذا نجح في تصدير الكهرباء النظيفة إلى دول الخليج المجاورة. علاوة على ذلك، فإن تحوّل العراق إلى مصدر للطاقة النظيفة يمنحه أوراق ضغط جديدة في التفاعلات الإقليمية، ويعيد تشكيل علاقاته مع دول الخليج وتركيا، التي باتت تتسابق نحو تنويع مصادر الطاقة وتقليل الاعتماد على الوقود التقليدي.
لكن كل ذلك لن يتحقق دون سياسة طاقوية طموحة، تبدأ بتخصيص ميزانيات حقيقية لمشاريع الطاقة المتجددة، وتطوير الشراكات بين القطاعين العام والخاص، وتحفيز الابتكار المحلي في تقنيات الطاقة المستدامة. ويمكن للدولة أن تلعب دورًا محوريًا في دعم الشركات الناشئة، وتوفير الحوافز المالية والتقنية لتوسيع هذه السوق الواعدة.
وفي مقابل ضعف الأداء الرسمي، ظهرت مبادرات محلية يقودها ناشطون ومهندسون بيئيون لترويج الطاقة الشمسية في القرى والمناطق النائية، من خلال مشاريع صغيرة تدعمها منظمات دولية، مثل “برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)”. هذه المبادرات وإن كانت محدودة، إلا أنها تمثل بذورًا واعدة لنهج مجتمعي جديد في التعامل مع قضية الطاقة.
العراق يقف اليوم على مفترق طرق: إما أن يسير بثقة نحو مستقبل طاقوي آمن ومستدام، أو أن يبقى رهينة لاقتصاد ريعي متآكل وتحديات بيئية متفاقمة. ولأن المناخ لا ينتظر، فإن الوقت قد حان لتكاتف الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص في بناء عراق نظيف، قوي، ومتصالح مع بيئته.